الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب العزلة راحة للمؤمن من خلاط السوء) لفظ هذه الترجمة أثر أخرجه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن عمر أنه قاله، لكن في سنده انقطاع. وخلاط بضم المعجمة وتشديد اللام للأكثر. وهو جمع مستغرب. وذكره الكرماني بلفظ " خلط " بغير ألف وهو بضمتين مخففا، كذا ذكره الصغاني في " العباب " قال الخطابي: جمع خليط والخليط يطلق على الواحد كقول الشاعر: بان الخليط ولو طووعت ما بانا وعلى الجمع كقوله: إن الخليط أجدوا البين يوم نأوا ويجمع أيضا على خلط بضمتين مخففا قال الشاعر: ضربا يفرق بين الجيرة الخلط قال والخلاط بالكسر والتخفيف المخالطة. قلت: فلعله الذي وقع في هذه الترجمة، ووقع عند الإسماعيلي " خلطا " بدل " خلاط " وأخرجه الخطابي في " كتاب العزلة " بلفظ " خليط " وقال ابن المبارك في " كتاب الرقائق " عن شعبة عن خبيب ابن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم قال قال عمر " خذوا حظكم من العزلة " وما أحسن قول الجنيد نفع الله ببركته " مكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة " وقال الخطابي: لو لم يكن في العزلة إلا السلامة من الغيبة ومن رؤية المنكر الذي لا يقدر على إزالته لكان ذلك خيرا كثيرا. وفي معنى الترجمة ما أخرجه الحاكم من حديث أبي ذر مرفوعا بلفظ " الوحدة خير من جليس السوء " وسنده حسن، لكن المحفوظ أنه موقوف عن أبي ذر أو عن أبي الدرداء. وأخرجه ابن أبي عاصم. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ قَالَ رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ وَالنُّعْمَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ أَوْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ يُونُسُ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله (وقال محمد بن يوسف) هو الفريابي، وقرنه هنا برواية أبي اليمان، وأفردها في الجهاد فساقه على لفظه هناك، وقد وصله مسلم عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف. قوله (جاء أعرابي) تقدم في أوائل الجهاد أني لم أقف على اسمه وأن أبا ذر سأل عن ذلك لكن لا يحسن أن يقال في حقه أعرابي. قوله (أي الناس خير) تقدم في الجهاد بلفظ " أفضل " وسأذكر له ألفاظا أخرى. قوله (قال رجل جاهد) هذا لا ينافي جوابه الآخر الماضي في الإيمان " من سلم الناس من لسانه ويده"، ولا غير ذلك من الأجوبة المختلفة لأن الاختلاف في ذلك بحسب اختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات كما تقدم تقريره، وقد تقدم شرح هذا الحديث في الجهاد. قوله (ورجل في شعب من الشعاب إلخ) هو محمول على من لا يقدر على الجهاد فيستحب في حقه العزلة ليسلم ويسلم غيره منه، والذي يظهر أنه محمول على ما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله "يعبد ربه " زاد مسلم من وجه آخر " ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير " وللنسائي من حديث ابن عباس رفعه " ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه " الحديث، وفيه " ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ رجل معتزل في غنيمة يؤدي حق الله فيها " وأخرجه الترمذي واللفظ له وقال حسن، وقوله هنا " تابعه النعمان " هو ابن راشد الجزري، ومتابعته وصلها أحمد عن وهب بن جرير حدثنا أبي سمعت النعمان بن راشد به. قوله (والزبيدي) هو محمد بن الوليد الشامي، وطريقه وصلها مسلم أيضا من رواية يحيى بن حمزة عنه. قوله (وسليمان بن كثير) هو العبدي، وطريقه وصلها أبو داود عن أبي الوليد الطيالسي عنه بلفظ " سئل أي المؤمنين أكمل إيمانا". قوله (وقال معمر عن الزهري عن عطاء أو عبيد الله) هو ابن عبد الله بن عتبة كذا بالشك، وكذا أخرجه أحمد عن عبد الرزاق وقال في سياقه " معمر يشك " وقد أخرجه مسلم عن عبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر فقال " عن عطاء " بغير شك، وكذا وقع لنا بعلو في مسند عبد بن حميد ولم يشك. قوله (وقال يونس) هو ابن يزيد الأيلي وطريقه وصلها الذهلي في " الزهريات " وأخرجه ابن وهب في جامعه عن يونس. قوله (وابن مسافر) هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وطريقه وصلها الذهلي في " الزهريات " من طريق الليث بن سعد عنه. قوله (ويحيى بن سعيد) هو الأنصاري، وطريقه وصلها الذهلي أيضا من طريق سليمان بن بلال عنه. قوله (عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) هذا لا يخالف الرواية الأولى، لأن الذي حفظ اسم الصحابي مقدم على من أبهمه، وقد بينت لفظ معمر ولفظ الزبيدي في كتاب الجهاد. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الْمَاجِشُونُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ خَيْرُ مَالِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ الْغَنَمُ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ الشرح: قوله (حدثنا الماجشون) بكسر الجيم وبالشين المعجمة هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة وقد تقدم في علامات النبوة عن أبي نعيم أيضا ولكن قال فيه " حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة بن الماجشون " فنسبه إلى جده، ولا مغايرة بين قوله الماجشون وابن الماجشون فإن كلا من عبد الله وأولاده يقال له الماجشون. قوله (عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قد روى مالك عنه هذا الحديث وجود نسبه وبينت ذلك في كتاب الإيمان في " باب من - الدين الفرار من الفتن". قوله (عن أبيه) في رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الرحمن هذا أنه سمع أباه، أخرجه أحمد والإسماعيلي. قوله (يأتي على الناس زمان خير مال المسلم الغنم) كذا أورده هنا، وفي الكلام حذف تقديره يكون فيه، وتقدم في علامات النبوة عن أبي نعيم بهذا الإسناد بلفظ " يأتي على الناس زمان يكون الغنم فيه خير مال المسلم " ووقع في رواية مالك " يوشك أن يكون خير مال المسلم إلخ " وتقدم إيضاحه. ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان، وأما زمنه صلى الله عليه وسلم فكان الجهاد فيه مطلوبا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا؟ وأما من بعده فيختلف ذلك باختلاف الأحوال، وسيأتي مزيد بيان لذلك في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. والشعب بكسر أوله الطريق في الجبل أو الموضع فيه، وشعف بفتح المعجمة ثم المهملة ثم فاء رأس الجبل وذكر الخطابي في " كتاب العزلة " أن العزلة والاختلاط يختلف باختلاف متعلقاتهما فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه، وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك، والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات، ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو أروح للبدن والقلب والله أعلم. وقال القشيري في " الرسالة ": طريق من آثر العزلة أن يعتقد سلامة الناس من شره لا العكس. فإن الأول ينتجه استصغاره نفسه وهي صفة المتواضع، والثاني شهوده مزية له على غيره وهذه صفة المتكبر. الشرح: قوله (باب رفع الأمانة) هي ضد الخيانة والمراد برفعها إذهابها بحيث يكون الأمين معدوما أو شبه المعدوم. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ الشرح: قوله (حدثنا محمد بن سنان) بكسر المهملة ونونين، وقد تقدم في أول كتاب العلم بهذا الإسناد مقرونا برواية محمد بن فليح عن أبيه، وساقه هناك على لفظه وفيه قصة الأعرابي الذي سأل عن قيام الساعة. قوله (إذا ضيعت الأمانة) هذا جواب الأعرابي الذي سأل عن قيام الساعة وهو القائل كيف إضاعتها؟ قوله (إذا أسند) قال الكرماني أجاب عن كيفية الإضاعة بما يدل على الزمان لأنه يتضمن الجواب، لأنه يلزم منه بيان أن كيفيتها هي الإسناد المذكور، وقد تقدم هناك بلفظ " وسد " مع شرحه، والمراد من " الأمر " جنس الأمور التي تتعلق بالدين كالخلافة والإمارة والقضاء والإفتاء وغير ذلك، وقوله "إلى غير أهله " قال الكرماني: أتي بكلمة " إلى " بدل اللام ليدل على تضمين معنى الإسناد. قوله (فانتظر الساعة) الفاء للتفريع، أو جواب شرط محذوف أي إذا كان الأمر كذلك فانتظر، قال ابن بطال: معنى " أسند الأمر إلى غير أهله " أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده وفرض عليهم النصيحة لهم، فينبغي لهم تولية أهل الدين، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنَا حُذَيْفَةُ قَالَ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمَّ عَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا قَالَ يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فَيُقَالُ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا رَدَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامُ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا رَدَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ أُبَايِعُ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا الشرح: حديث حذيفة في ذكر الأمانة وفي ذكر رفعها، وسيأتي بسنده ومتنه في كتاب الفتن ويشرح هناك إن شاء الله تعالى. والجذر بفتح الجيم وكسرها الأصل في كل شيء، والوكت بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مثناة أثر النار ونحوه، والمجل بفتح الميم وسكون الجيم بعدها لام هو أثر العمل في الكف، والمنتبر بنون ثم مثناة مفتوحة ثم موحدة مكسورة وهو المتنفط. قوله (ولا يكاد أحدهم) في رواية الكشميهني " أحد " بغير ضمير. قوله (من إيمان) قد يفهم منه أن المراد بالأمانة في الحديث الإيمان وليس كذلك بل ذكر ذلك لكونها لازمة الإيمان. قوله (بايعت) قال الخطابي: تأوله بعض الناس على بيعة الخلافة، وهذا خطأ، كيف يكون وهو يقول إن كان نصرانيا رده على ساعيه فهل يبايع النصراني على الخلافة؟ وإنما أراد مبايعة البيع والشراء. قوله (رده علي الإسلام) في رواية المستملي " بالإسلام " بزيادة موحدة. قوله (نصرانيا رده علي ساعيه) أي واليه الذي أقيم عليه لينصف منه، وأكثر ما يستعمل الساعي في ولاة الصدقة، ويحتمل أن يراد به هنا الذي يتولى قبض الجزية. قوله (إلا فلانا وفلانا) يحتمل أن يكون ذكره بهذا اللفظ، ويحتمل أن يكون سمي اثنين من المشهورين بالأمانة إذ ذاك فأبهمهما الراوي، والمعنى لست أثق بأحد آتمنه على بيع ولا شراء إلا فلانا وفلانا. قوله (قال الفربري) ثبت ذلك في رواية المستملي وحده، وأبو جعفر الذي روى عنه هنا هو محمد بن أبي حاتم البخاري وراق البخاري أي ناسخ كتبه، وقوله "حدثت أبا عبد الله " يريد البخاري وحذف ما حدثه به لعدم احتياجه له حينئذ، وقوله "فقال سمعت " القائل هو البخاري وشيخه أحمد بن عاصم هو البلخي، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع. وأخرج عنه البخاري في الأدب المفرد. قوله (سمعت أبا عبيد) هو القاسم بن سلام المشهور صاحب كتاب " غريب الحديث " وغيره من التصانيف، وليس له في البخاري إلا هذا الموضع، وكذا الأصمعي وأبو عمرو. وقوله "قال الأصمعي " هو عبد الملك بن قريب، وأبو عمرو هو ابن العلاء. قوله (وغيرهما) ذكره الإسماعيلي عن سفيان الثوري بعد أن أخرج الحديث من طريق عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان الثوري، ثم قال في آخره " قال سفيان الجذر الأصل". قوله (الجذر الأصل من كل شيء) اتفقوا على التفسير، ولكن عند أبي عمرو أن الجذر بكسر الجيم وعند الأصمعي بفتحها. قوله (والوكت أثر الشيء اليسير منه) هذا من كلام أبي عبيد أيضا وهو أخص مما تقدم لتقييده باليسير. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّمَا النَّاسُ كَالْإِبِلِ الْمِائَةِ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً الشرح: حديث ابن عمر، سنده معدود في أصح الأسانيد قوله (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة) في رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري " تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة " فعلى أن الرواية بغير ألف ولام وبغير تكاد فالمعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب، لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة بأن يعاون رفيقه ويلين جانبه، والرواية بإثبات " لا تكاد " أولى لما فيها من زيادة المعنى ومطابقة الواقع، وإن كان معنى الأول يرجع إلى ذلك، ويحمل النفي المطلق على المبالغة وعلى أن النادر لا حكم له. وقال الخطابي: العرب تقول للمائة من الإبل إبل يقولون لفلان إبل أي مائة بعير، ولفلان إبلان أي مائتان. قلت: فعلى هذا فالرواية التي بغير ألف ولام يكون قوله مائة تفسيرا لقوله إبل، لأن قوله كإبل أي كمائة بعير، ولما كان مجرد لفظ إبل ليس مشهور الاستعمال في المائة ذكر المائة توضيحا رفعا للإلباس، وأما على رواية البخاري فاللام للجنس. وقال الراغب: الإبل اسم مائة بعير، فقوله كالإبل المائة المراد به عشرة آلاف لأن التقدير كالمائة المائة انتهى. والذي يظهر على تسليم قوله لا يلزم ما قال إن المراد عشرة آلاف؛ بل المائة الثانية للتأكيد. قال الخطابي: تأولوا هذا الحديث على وجهين: أحدهما أن الناس في أحكام الدين سواء لا فضل فيها لشريف على مشروف ولا لرفيع على وضيع كالإبل المائة التي لا يكون فيها راحلة وهي التي ترحل لتركب، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة أي كلها حمولة تصلح للحمل ولا تصلح للرحل والركوب عليها. والثاني أن أكثر الناس أهل نقص: وأما أهل الفضل فعددهم قليل جدا، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة، ومنه قوله تعالى قلت: وأورد البيهقي هذا الحديث في كتاب القضاء في تسوية القاضي بين الخصمين أخذا بالتأويل الأول، ونقل عن ابن قتيبة أن الراحلة هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب، فإذا كانت في إبل عرفت، ومعنى الحديث أن الناس في النسب كالإبل المائة التي لا راحلة فيها، فهي مستوية. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب الذكر النجيب والأنثى النجيبة، والهاء في الراحلة للمبالغة. قال: وقول ابن قتيبة غلط والمعنى أن الزاهد في الدنيا الكامل فيه الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل. وقال النووي. هذا أجود وأجود منهما قول آخرين إن المرضي الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل. قلت: هو الثاني، إلا أنه خصصه بالزاهد، والأولى تعميمه كما قال الشيخ. وقال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة. وقال ابن بطال: معنى الحديث أن الناس كثير والمرضي منهم قليل، وإلى هذا المعنى أومأ البخاري بإدخاله في " باب رفع الأمانة " لأن من كانت هذه صفته فالاختيار عدم معاشرته. وأشار ابن بطال إلى أن المراد بالناس في الحديث من يأتي بعد القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم حيث يصيرون ويخونون ولا يؤتمنون. ونقل الكرماني هذا عن مغلطاي ظنا منه أنه كلامه لكونه لم يعزه فقال: لا حاجة إلى هذا التخصيص، لاحتمال أن يراد أن المؤمنين قليل بالنسبة للكفار والله أعلم. *3* الشرح: قوله (باب الرياء والسمعة) الرياء بكسر الراء وتخفيف التحتانية والمد وهو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدوا صاحبها، والسمعة بضم المهملة وسكون الميم مشتقة من سمع، والمراد بها نحو ما في الرياء لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر. وقال الغزالي: المعنى طلب المنزلة في قلوب الناس بأن يريهم الخصال المحمودة، والمرائي هو العامل. وقال ابن عبد السلام: الرياء أن يعمل لغير الله والسمعة أن يخفى عمله الله ثم يحدث به الناس. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ ح و حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ الشرح: قوله (يحيى) هو ابن سعيد القطان. وسفيان في الطريقين هو الثوري، والسند الثاني أعلى من الأول، ولم يكتف به مع علوه لأن في الرواية الأولى مزايا وهي جلالة القطان وما وقع في سياقه من تصريح سفيان بالتحديث ونسبة سلمة شيخ الثوري وهو سلمة بن كهيل بالتصغير ابن حصين الحضرمي، والسند الثاني كله كوفيون. قوله (ولم أسمع أحدا يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم غيره) وثبت كذلك عند مسلم في رواية، وقائل ذلك هو سلمة بن كهيل " ومراده أنه لم يسمع من أحد من الصحابة حديثا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا من جندب وهو ابن عبد الله البجلي الصحابي المشهور وهو من صغار الصحابة وقال الكرماني: مراده لم يبق من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ غيره في ذلك المكان. قلت: احترز بقوله " في ذلك المكان " عمن كان من الصحابة موجودا إذ ذاك بغير المكان الذي كان فيه جندب، وليس كذلك فإن جندبا كان بالكوفة إلى أن مات وكان بها في حياة جندب أبو جحيفة السوائي وكانت وفاته بعد جندب بست سنين، وعبد الله بن أبي أوفى وكانت وفاته بعد جندب بعشرين سنة، وقد روى سلمة عن كل منهما فتعين أن يكون مراده أنه لم يسمع منهما ولا من أحدهما ولا من غيرهما ممن كان موجودا من الصحابة بغير الكوفة بعد أن سمع من جندب الحديث المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. قوله (من سمع) بفتح المهملة والميم الثقيلة والثانية مثلها، وقوله "ومن يرائي " بضم التحتية والمد وكسر الهمزة والثانية مثلها وقد ثبتت الياء في آخر كل منهما أما الأولى فللإشباع وأما الثانية فكذلك، أو التقدير فإنه يرائي به الله. ووقع في رواية وكيع عن سفيان عند مسلم " من يسمع يسمع الله به ومن يرائي يرائي الله به " ولابن المبارك في الزهد من حديث ابن مسعود " من سمع سمع الله به، ومن رائى رائى الله به، ومن تطاول تعاظما خفضه الله، ومن تواضع تخشعا رفعه الله " وفي حديث ابن عباس عند " من سمع سمع الله به ومن رائى رائى الله به " ووقع عند الطبراني من طريق محمد بن جحادة عن سلمة بن كهيل عن جابر في آخر هذا الحديث " ومن كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة " قال الخطابي: معناه من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه وقيل من قصد بعمله الجاه والمنزلة عند الناس ولم يرد به وجه الله فإن الله يجعله حديثا عند الناس الذين أراد نيل المنزلة عندهم ولا ثواب له في الآخرة، ومعنى يرائي يطلعهم على أنه فعل ذلك لهم لا لوجهه، ومنه قوله تعالى {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها - إلى قوله - ما كانوا يعملون} وقيل: المراد من قصد بعمله أن يسمعه الناس ويروه ليعظموه وتعلو منزلته عندهم حصل له ما قصد، وكان ذلك جزاءه على عمله؛ ولا يثاب عليه في الآخرة. وقيل المعنى، من سمع بعيوب الناس وأذاعها أظهر الله عيوبه وسمعه المكروه. وقيل المعنى من نسب إلى نفسه عملا صالحا لم يفعله وادعى خيرا لم يصنعه فإن الله يفضحه ويظهر كذبه، وقيل المعنى من يرائي الناس بعمله أراه الله ثواب ذلك العمل وحرمه إياه. قيل معنى سمع الله به شهره أو ملأ أسماع الناس بسوء الثناء عليه في الدنيا أو في القيامة بما ينطوي عليه من خبث السريرة، قلت: ورد في عدة أحاديث التصريح بوقوع ذلك في الآخرة، فهو المعتمد: فعند أحمد والدارمي من حديث أبي هند الداري رفعه " من قام مقام رياء وسمعة رائى الله به يوم القيامة وسمع به"، وللطبراني من حديث عوف بن مالك نحوه، وله من حديث معاذ مرفوعا " ما من عبد يقوم في الدنيا مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رءوس الخلائق يوم القيامة " وفي الحديث استحباب إخفاء العمل الصالح، لكن قد يستحب إظهاره ممن يقتدى به على إرادته الاقتداء به، ويقدر ذلك بقدر الحاجة. قال ابن عبد السلام: يستثنى من استحباب إخفاء العمل من يظهره ليقتدى به أو لينتفع به ككتابة العلم، ومنه حديث سهل الماضي في الجمعة " لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " قال الطبري كان ابن عمر وابن مسعود وجماعة من السلف يتهجدون في مساجدهم ويتظاهرون بمحاسن أعمالهم ليقتدى بهم، قال: فمن كان إماما يستن بعمله عالما بما لله عليه قاهرا لشيطانه استوى ما ظهر من عمله وما خفي لصحة قصده، ومن كان بخلاف ذلك فالإخفاء في حقه أفضل، وعلى ذلك جرى عمل السلف. فمن الأول حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ ويرفع صوته بالذكر فقال إنه أواب قال فإذا هو المقداد بن الأسود " أخرجه الطبري. ومن الثاني حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال " قام رجل يصلي فجهر بالقراءة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسمعني وأسمع ربك " أخرجه أحمد وابن أبي خيثمة وسنده حسن. *3* الشرح: قوله (باب من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل) يعني بيان فضل من جاهد، والمراد بالمجاهدة كف النفس عن إرادتها من الشغل بغير العبادة، وبهذا تظهر مناسبة الترجمة لحديث الباب. وقال ابن بطال: جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله تعالى ويقع بمنع النفس عن المعاصي، وبمنعها من الشبهات، وبمنعها من الإكثار من الشهوات المباحة لتتوفر لها في الآخرة. قلت: ولئلا يعتاد الإكثار فيألفه فيجره إلى الشبهات فلا يأمن أن يقع في الحرام. ونقل القشيري عن شيخه أبي على الدقاق: من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذا الطريق شمة. وعن أبي عمرو بن بجيد: من كرم عليه دينه هانت عليه نفسه. قال القشيري: أصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير هواها. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات، فالمجاهدة تقع بحسب ذلك. قال بعض الأئمة: جهاد النفس داخل في جهاد العدو، فإن الأعداء ثلاثة: رأسهم الشيطان، ثم النفس لأنها تدعو إلى اللذات المفضية بصاحبها إلى الوقوع في الحرام الذي يسخط الرب، والشيطان هو المعين لها على ذلك ويزينه لها. فمن خالف هوى نفسه قمع شيطانه، فمجاهدته نفسه حملها على اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، وإذا قوى العبد على ذلك سهل عليه جهاد أعداء الدين، فالأول الجهاد الباطن والثاني الجهاد الظاهر. وجهاد النفس أربع مراتب: حملها على تعلم أمور الدين، ثم حملها على العمل بذلك، ثم حملها على تعليم من لا يعلم، ثم الدعاء إلى توحيد الله وقتال من خالف دينه وجحد نعمه. وأقوى المعين على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقى إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نهى عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام ذلك من المجاهدة أن يكون متيقظا لنفسه في جميع أحواله، فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات وبالله التوفيق. الحديث: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ قَالَ هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ الشرح: قوله (همام) هو ابن يحيى. قوله (أنس عن معاذ بن جبل) هكذا رواه همام عن قتادة، ومقتضاه التصريح بأنه من مسند معاذ، وخالفه هشام الدستوائي عن قتادة فقال " عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - ومعاذ رديفه على الرجل - يا معاذ " وقد تقدم في أواخر كتاب العلم ومقتضاه أنه من مسند أنس والمعتمد الأول، ويؤيده أن المصنف أتبع رواية هشام رواية سليمان التيمي عن أنس قال " ذكر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ " فدل على أن أنسا لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل قوله " ذكر " على البناء للمجهول أن يكون أنس حمله عن معاذ بواسطة أو بغير واسطة، وقد أشرت في شرحه في العلم إلى احتمال أن يكون أنس حمله عن عمرو بن ميمون الأودي عن معاذ، أو من عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ، وهذا كله بناء على أنه حديث واحد، وقد رجح لي أنهما حديثان وإن اتحد مخرجهما عن قتادة عن أنس ومتنهما في كون معاذ ردف النبي صلى الله عليه وسلم للاختلاف فيما وردا فيه، وهو أن حديث الباب في حق الله على العباد وحق العباد على الله، والماضي فيمن لقي الله لا يشرك به شيئا، وكذا رواية أبي عثمان النهدي وأبي رزين وأبي العوام كلهم عن معاذ عند أحمد، ورواية عمرو بن ميمون موافقة لرواية حديث الباب، ونحوها رواية عبد الرحمن بن سمرة عن معاذ عند النسائي، والرواية الأخرى موافقة لرواية هشام التي في العلم، وقد أشرت إلى شيء من ذلك في " باب اسم الفرس والحمار " من كتاب الجهاد، وقد جاء عن أنس عن معاذ نحو حديث الباب أخرجه أحمد من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن أنس قال " أتينا معاذا فقلنا: حدثنا من غرائب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فذكر مثل حديث همام عن قتادة. قوله (بينا أنا رديف) تقدم بيانه في أواخر كتاب اللباس قبل الأدب ببابين. قوله (ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل) بفتح الراء وسكون الحاء المهملة هو للبعير كالسرج للفرس، وآخره بالمد وكسر المعجمة بعدها راء هي العود الذي يجعل خلف الراكب يستند إليه، وفائدة ذكره المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه أنه ضبط ما رواه. ووقع في رواية مسلم عن هداب بن خالد وهو هدبة شيخ البخاري فيه بسنده هذا " مؤخرة " بدل " آخرة " وهي بضم الميم وسكون الهمزة وفتح الخاء، ووقع في رواية عمرو بن ميمون عن معاذ " كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير " وقد تقدم ضبطه في الجهاد، ووقع عند أحمد من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ " أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار يقال له يعفور رسنه من ليف " ويمكن الجمع بأن المراد بآخرة الرحل موضع آخرة الرحل للتصريح هنا بكونه كان على حمار، وإلى ذلك أشار النووي ومشى ابن الصلاح على أنهما قضيتان، وكأن مستنده أنه وقع في رواية أبي العوام عند أحمد " على جمل أحمر " ولكن سنده ضعيف. قوله (فقال يا معاذ: قلت لبيك) تقدم بيان ذلك في كتاب الحج. قوله (رسول الله) بالنصب على النداء وحرف النداء محذوف، ووقع في العلم بإثباته. قوله (ثم سار ساعة) فيه بيان أن الذي وقع في العلم " قال لبيك يا رسول الله وسعديك، قال يا معاذ " لم يقع النداء الثاني على الفور بل بعد ساعة. قوله (فقال) في رواية الكشميهني " ثم قال". قوله (يا معاذ بن جبل) تقدم ضبطه في العلم. قوله (قال هل تدري) وقع في رواية مسلم المشار إليها بعد قوله " وسعديك " الثانية " ثم سار ساعة ثم قال هل تدري " وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام الماضية في الاستئذان بعد المرة الأولى " ثم قال مثله ثلاثا " أي النداء والإجابة وقد تقدم نحوه في العلم، وهو لتأكيد الاهتمام بما يخبره به ويبالغ في تفهمه وضبطه. قوله (هل تدري ما حق الله على عباده) الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق حق لأن وقوعه متحقق لا تردد فيه، وكذا الحق المستحق على الغير إذا كان لا تردد فيه، والمراد هنا ما يستحقه الله على عباده مما جعله محتما عليهم قاله ابن التيمي في التحرير. وقال القرطبي: حق الله على العباد هو ما وعدهم به من الثواب وألزمهم إياه بخطابه. قوله (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) المراد بالعبادة عمل الطاعات واجتناب المعاصي وعطف عليها عدم الشرك لأنه تمام التوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى فاشترط نفي ذلك، وتقدم أن الجملة حالية والتقدير يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبان: عبادة الله إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، ولهذا قال في الجواب " فما حق العباد إذا فعلوا ذلك " فعبر بالفعل ولم يعبر بالقول. قوله (هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه) ؟ الضمير لما تقدم من قوله " يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " في رواية مسلم " إذا فعلوا ذلك". قوله (حق العباد على الله أن لا يعذبهم) في رواية ابن حبان من طريق عمرو بن ميمون " أن يغفر لهم ولا يعذبهم " وفي رواية أبي عثمان " يدخلهم الجنة " وفي رواية أبي العوام مثله وزاد " ويغفر لهم " وفي رواية عبد الرحمن بن غنم " أن يدخلهم الجنة " قال القرطبي: حق العباد على الله ما وعدهم به من الثواب والجزاء، فحق ذلك ووجب بحكم وعده الصدق، وقوله الحق الذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر ولا الخلف في الوعد، فالله سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحكم الأمر إذ لا آمر فوقه ولا حكم للعقل لأنه كاشف لا موجب انتهى. وتمسك بعض المعتزلة بظاهره. ولا متمسك لهم فيه مع قيام الاحتمال. وقد تقدم في العلم عدة أجوبة غير هذه، ومنها أن المراد بالحق هنا المتحقق الثابت أو الجدير، لأن إحسان الرب لمن لم يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن لا يعذبه، أو المراد أنه كالواجب في تحققه وتأكده، أو ذكر على سبيل المقابلة. قال: وفي الحديث جواز ركوب اثنين على حمار، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم، وفضل معاذ وحسن أدبه في القول وفي العلم برده لما لم يحط بحقيقته إلى علم الله ورسوله، وقرب منزلته من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه تكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشيخ تلميذه عن الحكم ليختبر ما عنده ويبين له ما يشكل عليه منه. وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري: قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية لله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا فيحب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك: أحدها قول الزهري إن هذه الرخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أن النسخ لا يدخل الخبر، وبأن سماع معاذ لهذه كان متأخرا عن أكثر نزول الفرائض. وقيل لا نسخ بل هو على عمومه، ولكنه مقيد بشرائط كما ترتب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك عمل المقتضي عمله، وإلى ذلك أشار وهب بن منبه بقوله المتقدم في كتاب الجنائز في شرح " أن لا إله إلا الله مفتاح الجنة ": ليس من مفتاح إلا وله أسنان، وقيل المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل ترك تعذيب جميع بدن الموحدين لأن النار لا تحرق مواضع السجود، وقيل ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية. انتهى ملخصا. وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث " فقلت ألا أخبر الناس؟ قال: لا لئلا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب العلم. (تنبيه) هذا من الأحاديث التي أخرجها البخاري في ثلاثة مواضع عن شيخ واحد بسند واحد، وهي قليلة في كتابه جدا، ولكنه أضاف إليه في الاستئذان موسى بن إسماعيل، وقد تتبع بعض من لقيناه ما أخرجه في موضعين بسند فبلغ عدتها زيادة على العشرين، وفي بعضها يتصرف في المتن بالاختصار منه. الشرح: قوله (باب التواضع) بضم الضاد المعجمة، مشتق من الضعة بكسر أوله وهي الهوان، والمراد بالتواضع إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه، وقيل هو تعظيم من فوقه لفضله. الحديث: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ قَالَ ح و حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا سُبِقَتْ الْعَضْبَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ الشرح: حديث أنس في ذكر الناقة لما سبقت، وقد تقدم شرحه في كتاب الجهاد في " باب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم " وزعم بعضهم أنه لا مدخل له في هذه الترجمة، وغفل عما وقع في بعض طرقه عند النسائي بلفظ " حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه " فإن فيه إشارة إلى الحث على عدم الترفع، والحث على التواضع، والإعلام بأن أمور الدنيا ناقصة غير كاملة. قال ابن بطال: فيه هوان الدنيا على الله، والتنبيه على ترك المباهاة والمفاخرة، وأن كل شيء هان على الله فهو في محل الضعة فحق على كل ذي عقل أن يزهد فيه ويقل منافسته في طلبه. وقال الطبري: في التواضع مصلحة الدين والدنيا، فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولاستراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة، قلت: وفيه أيضا حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه، لكونه رضي أن أعرابيا يسابقه، وفيه جواز المسابقة. وزهير في السند الأول هو ابن معاوية أبو خيثمة الجعفي؛ ومحمد في السند الثاني هو ابن سلام وجزم به الكلاباذي ووقع كذلك في نسخة من رواية أبي ذر، والفزاري هو مروان بن معاوية ووهم من زعم أنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الحارث، نعم رواية أبي إسحاق الفزاري له قد تقدمت في الجهاد، وأبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ الشرح: قوله (محمد بن عثمان بن كرامة) بفتح الكاف والراء الخفيفة هو من صغار شيوخ البخاري، وقد شاركه في كثير من شيوخه منهم خالد بن مخلد شيخه في هذا الحديث، فقد أخرج عنه البخاري كثيرا بغير واسطة منها في " باب الاستعاذة من الجبن " في كتاب الدعوات وهو أقربها إلى هذا. قوله (عن عطاء) هو ابن يسار، ووقع كذلك في بعض النسخ، وقيل هو ابن أبي رباح والأول أصح نبه على ذلك الخطيب، وساق الذهبي في ترجمة خالد من الميزان بعد أن ذكر قول أحمد فيه له مناكير، وقول أبي حاتم لا يحتج به. وأخرج ابن عدي عشرة أحاديث من حديثه استنكرها: هذا الحديث من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه وقال: هذا حديث غريب جدا لولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، فإن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الإسناد ولا خرجه من عدا البخاري ولا أظنه في مسند أحمد. قلت: ليس هو في مسند أحمد جزما، وإطلاق أنه لم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك فشريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضا، وهو راوي حديث المعراج الذي زاد فيه ونقص وقدم وأخر وتفرد فيه بأشياء لم يتابع عليها كما يأتي القول فيه مستوعبا في مكانه، ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أن له أصلا، منها عن عائشة أخرجه أحمد في " الزهد " وابن أبي الدنيا وأبو نعيم في " الحلية " والبيهقي في " الزهد " من طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عنها، وذكر ابن حبان وابن عدي أنه تفرد به، وقد قال البخاري إنه منكر الحديث، لكن أخرجه الطبراني من طريق يعقوب بن مجاهد عن عروة وقال: لم يروه عن عروة إلا يعقوب وعبد الواحد. ومنها عن أبي أمامة أخرجه الطبراني والبيهقي في " الزهد " بسند ضعيف. ومنها عن على عند الإسماعيلي في مسند علي، وعن ابن عباس أخرجه الطبراني وسندهما ضعيف، وعن أنس أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وفي سنده ضعف أيضا، وعن حذيفة أخرجه الطبراني مختصرا وسنده حسن غريب، وعن معاذ بن جبل أخرجه ابن ماجه وأبو نعيم في " الحلية " مختصرا وسنده ضعيف أيضا، وعن وهب بن منبه مقطوعا أخرجه أحمد في " الزهد " وأبو نعيم في " الحلية " وفيه تعقب على ابن حبان حيث قال بعد إخراج حديث أبي هريرة: لا يعرف لهذا الحديث إلا طريقان يعني غير حديث الباب وهما هشام الكناني عن أنس وعبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة وكلاهما لا يصح، وسأذكر ما في رواياتهم من فائدة زائدة. قوله (إن الله تعالى) قال الكرماني: هذا من الأحاديث القدسية، وقد تقدم القول فيها قبل ستة أبواب. قلت: وقد وقع في بعض طرقه أن النبي صلى الله عليه وسلم حديث به عن جبريل عن الله عز وجل وذلك في حديث أنس. قوله (من عادى لي وليا) المراد بولي الله العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته. وقد استشكل وجود أحد يعاديه لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين ومن شأن الولي الحلم والصفح عمن يجهل عليه، وأجيب بأن المعاداة لم تنحصر في الخصومة والمعاملة الدنيوية مثلا بل قد تقع عن بغض ينشأ عن التعصب كالرافضي في بغضه لأبي بكر، والمبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله تعالى وفي الله، وأما من جانب الآخر فلما تقدم. وكذا الفاسق المتجاهر ببغضه الولي في الله وببغضه الآخر لإنكاره عليه وملازمته لنهيه عن شهواته. وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل ومن الآخر بالقوة. قال الكرماني: قوله " لي " هو في الأصل صفة لقوله " وليا " لكنه لما تقدم صار حالا. وقال ابن هبيرة في " الإفصاح " قوله " عادى لي وليا " أي اتخذه عدوا، ولا أرى المعنى إلا أنه عاداه من أجل ولايته وهو إن تضمن التحذير من إيذاء قلوب أولياء الله ليس على الإطلاق بل يستثنى منه ما إذا كانت الحال تقتضي نزاعا بين وليين في مخاصمة أو محاكمة ترجع إلى استخراج حق أو كشف غامض، فإنه جرى بين أبي بكر وعمر مشاجرة، وبين العباس وعلى، إلى غير ذلك من الوقائع انتهى ملخصا موضحا. وتعقبه الفاكهاني بأن معاداة الولي لكونه وليا لا يفهم إلا إن كان على طريق الحسد الذي هو تمنى زوال ولايته وهو بعيد جدا في حق الولي فتأمله قلت: والذي قدمته أولى أن يعتمد، قال ابن هبيرة: ويستفاد من هذا الحديث تقديم الإعذار على الإنذار وهو واضح. قوله (فقد آذنته) بالمد وفتح المعجمة بعدها نون أي أعلمته، والإيذان الإعلام، ومنه أخذ الأذان. قوله (بالحرب) له رواية الكشميهني " بحرب " ووقع في حديث عائشة " من عادى لي وليا " وفي رواية لأحمد " من آذى لي وليا " وفي أخرى له " من آذى " وفي حديث ميمونة مثله " فقد استحل محاربتي " وفي رواية وهب بن منبه موقوفا " قال الله من أهان وليي المؤمن فقد استقبلني بالمحاربة " وفي حديث معاذ " فقد بارز الله بالمحاربة " وفي حديث أبي أمامة وأنس " فقد بارزني " وقد استشكل وقوع المحاربة وهي مفاعلة من الجانبين مع أن المخلوق في أسر الخالق، والجواب أنه من المخاطبة بما يفهم، فإن الحرب تنشأ عن العداوة والعداوة تنشأ عن المخالفة وغاية الحرب الهلاك والله لا يغلبه غالب، فكأن المعنى فقد تعرض لإهلاكي إياه. فأطلق الحرب وأراد لازمه أي أعمل به ما يعمله العدو المحارب. قال الفاكهاني: في هذا تهديد شديد، لأن من حاربه الله أهلكه، وهو من المجاز البليغ، لأن من كره من أحب الله خالف الله ومن خالف الله عانده ومن عانده أهلكه، وإذا ثبت هذا في جانب المعاداة ثبت في جانب الموالاة، فمن والى أولياء الله أكرمه الله. وقال الطوفي: لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة، وقد أجرى الله العادة بأن عدو العدو صديق وصديق العدو عدو، فعدو ولي الله عدو الله فمن عاداه كان كمن حاربه ومن حاربه فكأنما حارب الله. قوله (وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه) يجوز في " أحب " الرفع والنصب، ويدخل تحت هذا اللفظ جميع فرائض العين والكفاية، وظاهره الاختصاص بما ابتدأ الله فرضيته، وفي دخول ما أوجبه المكلف على نفسه نظر للتقييد بقوله افترضت عليه، إلا إن أخذ من جهة المعنى الأعم، ويستفاد منه أن أداء الفرائض أحب الأعمال إلى الله. قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم ويقع بتركها المعاقبة بخلاف النفل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب فكانت الفرائض أكمل، فلهذا كانت أحب إلى الله تعالى وأشد تقريبا، وأيضا فالفرض كالأصل والأس والنفل كالفرع والبناء، وفي الإتيان بالفرائض على الوجه المأمور به امتثال الأمر واحترام الآمر وتعظيمه بالانقياد إليه وإظهار عظمة الربوبية وذل العبودية فكان التقرب بذلك أعظم العمل، والذي يؤدي الفرائض قد يفعله خوفا من العقوبة ومؤدي النفل لا يفعله إلا إيثارا للخدمة فيجازي بالمحبة التي هي غاية مطلوب من يتقرب بخدمته. قوله (وما زال) في رواية الكشميهني " وما يزال " بصيغة المضارعة. قوله (يتقرب إلي) التقرب طلب القرب، قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه، ثم بإحسانه. وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه. ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق. قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء. ووقع في حديث أبي أمامة " يتحبب إلى " بدل " يتقرب " وكذا في حديث ميمونة. قوله (بالنوافل حتى أحببته) في رواية الكشميهني " أحبه " ظاهره أن محبة الله تعالى للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل، وقد استشكل بما تقدم أولا أن الفرائض أحب العبادات المتقرب بها إلى الله فكيف لا تنتج المحبة؟ والجواب أن المراد من النوافل ما كانت حاوية للفرائض مشتملة عليها ومكملة لها، ويؤيده أن في رواية أبي أمامة " ابن آدم. إنك لن تدرك ما عندي إلا بأداء ما افترضت عليك " وقال الفاكهاني: معنى الحديث أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرهما أفضى به ذلك إلى محبة الله تعالى. وقال ابن هبيرة: يؤخذ من قوله " ما تقرب إلخ " أن النافلة لا تقدم على الفريضة، لأن النافلة إنما سميت نافلة لأنها تأتي زائدة على الفريضة، فما لم تؤد الفريضة لا تحصل النافلة، ومن أدى الفرض ثم زاد عليه النفل وأدام ذلك تحققت منه إرادة التقرب انتهى. وأيضا فقد جرت العادة أن التقرب يكون غالبا بغير ما وحب على المتقرب كالهدية والتحفة بخلاف من يؤدي ما عليه من خراج أو يقضى ما عليه من دين. وأيضا فإن من جملة ما شرعت له النوافل جبر الفرائض كما صح في الحديث الذي أخرجه مسلم " انظروا هل لعبدي من تطوع فتكمل به فريضته " الحديث بمعناه فتبين أن المراد من التقرب بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها كما قال بعض الأكابر: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور. قوله (فكنت سمعه الذي يسمع) زاد الكشميهني " به". قوله (وبصره الذي يبصر به) في حديث عائشة في رواية عبد الواحد " عينه التي يبصر بها " وفي رواية يعقوب بن مجاهد " عينيه التي يبصر بهما " بالتثنية وكذا قال في الأذن واليد والرجل، وزاد عبد الواحد في روايته " وفؤاده الذي يعقل به، ولسانه الذي يتكلم به " ونحوه في حديث أبي أمامة وفي حديث ميمونة " وقلبه الذي يعقل به " وفي حديث أنس " ومن أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا " وقد استشكل كيف يكون الباري جل وعلا سمع العبد وبصره إلخ؟ والجواب من أوجه: أحدها أنه ورد على سبيل التمثيل، والمعنى كنت سمعه وبصره في إيثاره أمري فهو يجب طاعتي ويؤثر خدمتي كما يجب هذه الجوارح: ثانيها أن المعنى كليته مشغولة بي فلا يصغي بسمعه إلا إلى ما يرضيني، ولا يرى ببصره إلا ما أمرته به. ثالثها المعنى أحصل له مقاصده كأنه ينالها بسمعه وبصره إلخ. رابعها كنت له في النصرة كسمعه وبصره ويده ورجله في المعاونة على عدوه خامسها قال الفاكهاني وسبقه إلى معناه ابن هبيرة: هو فيما يظهر لي أنه على حذف مضاف، والتقدير كنت حافظ سمعه الذي يسمع به فلا يسمع إلا ما يحل استماعه، وحافظ بصره كذلك إلخ. سادسها قال الفاكهاني: يحتمل معنى آخر أدق من الذي قبله، وهو أن يكون معنى سمعه مسموعه، لأن المصدر قد جاء بمعنى المفعول مثل فلان أملى بمعنى مأمولي، والمعنى أنه لا يسمع إلا ذكري ولا يلتذ إلا بتلاوة كتابي ولا يأنس إلا بمناجاتي ولا ينظر إلا في عجائب ملكوتي ولا يمد يده إلا فيما فيه رضاي ورجله كذلك، وبمعناه قال ابن هبيرة أيضا. وقال الطوفي: اتفق العلماء ممن يعتد بقوله أن هذا مجاز وكناية عن نصرة العبد وتأييده وإعانته، حتى كأنه سبحانه ينزل نفسه من عبده منزلة الآلات التي يستعين بها ولهذا وقع في رواية " فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي " قال: والاتحادية زعموا أنه على حقيقته وأن الحق عين العبد، واحتجوا بمجيء جبريل في صورة دحية، قالوا فهو روحاني خلع صورته وظهر بمظهر البشر، قالوا فالله أقدر على أن يظهر في صورة الوجود الكلي أو بعضه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقال الخطابي: هذه أمثال والمعنى توفيق الله لعبده في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، وتيسير المحبة له فيها بأن يحفظ جوارحه عليه ويعصمه عن مواقعه ما يكره الله من الإصغاء إلى اللهو بسمعه، ومن النظر إلى ما نهى الله عنه ببصره، ومن البطش فيما لا يحل له بيده، ومن السعي إلى الباطل برجله. وإلى هذا نحا الداودي، ومثله الكلاباذي، وعبر بقوله أحفظه فلا يتصرف إلا في محابي، لأنه إذا أحبه كره له أن يتصرف فيما يكرهه منه. سابعها قال الخطابي أيضا: وقد يكون عبر بذلك عن سرعة إجابة الدعاء والنجح في الطلب، وذلك أن مساعي الإنسان كلها إنما تكون بهذه الجوارح المذكورة. وقال بعضهم: وهو متنزع مما تقدم لا يتحرك له جارحة إلا في الله ولله، فهي كلها تعمل بالحق للحق. وأسند البيهقي في " الزهد " عن أبي عثمان الجيزي أحد أئمة الطريق قال: معناه كنت أسرع إلى قضاء حوائجه من سمعه في الأسماع وعينه في النظر ويده في اللمس ورجله في المشي. وحمله بعض متأخري الصوفية على ما يذكرونه من مقام الفناء والمحو، وأنه الغاية التي لا شيء وراءها، وهو أن يكون قائما بإقامة الله له محبا بمحبته له ناظرا بنظره له من غير أن تبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بأمر أو توصف بوصف، ومعنى هذا الكلام أنه يشهد إقامة الله له حتى، قام ومحبته له حتى أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل ناظرا إليه بقلبه. وحمله بعض أهل الزيغ على ما يدعونه من أن العبد إذا لازم العبادة الظاهرة والباطنة حتى يصفى من الكدورات أنه يصير في معنى الحق، تعالى الله عن ذلك، وأنه يفني عن نفسه جملة حتى يشهد أن الله هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما صرفا في شهوده وإن لم تعدم في الخارج، وعلى الأوجه كلها فلا متمسك فيه للاتحادية ولا القائلين بالوحدة المطلقة لقوله في بقية الحديث " ولئن سألني، ولئن استعاذني " فإنه كالصريح في الرد عليهم. قوله (وإن سألني) زاد في رواية عبد الواحد " عبدي". قوله (أعطيته) أي ما سأل. قوله (ولئن استعاذني) ضبطناه بوجهين الأشهر بالنون بعد الذال المعجمة والثاني بالموحدة والمعنى أعذته مما يخاف، وفي حديث أبي أمامة " وإذا استنصر بي نصرته " وفي حديث أنس " نصحني فنصحت له " ويستفاد منه أن المراد بالنوافل جميع ما يندب من الأقوال والأفعال. وقد وقع في حديث أبي أمامة المذكور " وأحب عبادة عبدي إلى النصيحة " وقد استشكل بأن جماعة من العباد والصلحاء دعوا وبالغوا ولم يجابوا، والجواب أن الإجابة تتنوع: فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخر لحكمة فيه، وتارة قد تقع الإجابة ولكن بغير عين المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة وفي الواقع مصلحة ناجزة أو أصلح منها. وفي الحديث عظم قدر الصلاة فإنه ينشأ عنها محبة الله للعبد الذي يتقرب بها، وذلك لأنها محل المناجاة والقربة، ولا واسطة فيها بين العبد وربه، ولا شيء أقر لعين العبد منها ولهذا جاء في حديث أنس المرفوع " وجعلت قوة عيني في الصلاة " أخرجه النسائي وغيره بسند صحيح، ومن كانت قوة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه لأن فيه نعيمه وبه تطيب حياته، وإنما يحصل ذلك للعابد بالمصابرة على النصب، فإن السالك غرض الأفات والفتور. وفي حديث حذيفة من الزيادة " ويكون من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة " وقد تمسك بهذا الحديث بعض الجهلة من أهل التجلي والرياضة فقالوا: القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت خواطره معصومة من الخطأ. وتعقب ذلك أهل التحقيق من أهل الطريق فقالوا: لا يلتفت إلى شيء من ذلك إلا إذا وافق الكتاب والسنة، والعصمة إنما هي للأنبياء ومن عداهم فقد يخطئ، فقد كان عمر رضي الله عنه رأس الملهمين ومع ذلك فكان ربما رأى الرأي فيخبره بعض الصحابة بخلافه فيرجع إليه ويترك رأيه. فمن ظن أنه يكتفي بما يقع في خاطره عما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فقد ارتكب أعظم الخطأ، وأما من بالغ متهم فقال: حدثني قلبي عن ربي فإنه أشد خطأ فإنه لا يأمن أن يكون قلبه إنما حدثه عن الشيطان، والله المستعان. قال الطوفي: هذا الحديث أصل في السلوك إلى الله والوصول إلى معرفته ومحبته وطريقه، إذ المفترضات الباطنة وهي الإيمان والظاهرة وهي الإسلام والمركب منهما وهو الإحسان فيهما كما تضمنه حديث جبريل، والإحسان يتضمن مقامات السالكين من الزهد والإخلاص والمراقبة وغيرها، وفي الحديث أيضا أن من أتي بما وجب عليه وتقرب بالنوافل لم يرد دعاؤه لوجود هذا الوعد الصادق المؤكد بالقسم، وقد تقدم الجواب عما يتخلف من ذلك، وفيه أن العبد ولو بلغ أعلى الدرجات حتى يكون محبوبا لله لا ينقطع عن الطلب من الله لما فيه من الخضوع له وإظهار العبودية، وقد تقدم تقرير هذا واضحا في أوائل كتاب الدعوات. قوله (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن) وفي حديث عائشة " ترددي عن موته " ووقع في " الحلية " في ترجمة وهب بن منبه " إني لأجد في كتب الأنبياء أن الله تعالى يقول: ما ترددت عن شيء قط ترددي عن قبض روح المؤمن إلخ " قال الخطابي: التردد في حق الله غير جائز، والبداء عليه في الأمور غير سائغ. ولكن له تأويلان: أحدهما أن العبد قد يشرف على الهلاك في أيام عمره من داء يصيبه وفاقة تنزل به فيدعو الله فيشفيه منها ويدفع عنه مكروهها، فيكون ذلك من فعله كتردد من يريد أمرا ثم يبدو له فيه فيتركه ويعرض عنه ولا بد له من لقائه إذا بلغ الكتاب أجله، لأن الله قد كتب الفناء على خلقه واستأثر بالبقاء لنفسه. والثاني أن يكون معناه ما رددت رسلي في شيء أنا فاعله كترديدي إياهم في نفس المؤمن، كما روى في قصة موسى وما كان من لطمة عين ملك الموت وتردده إليه مرة بعد أخرى، قال: وحقيقة المعنى على الوجهين عطف الله على العبد ولطفه به وشفقته عليه. وقال الكلاباذي ما حاصله: أنه عبر عن صفة الفعل بصفة الذات، أي عن الترديد بالتردد، وجعل متعلق الترديد اختلاف أحوال العبد من ضعف ونصب إلى أن تنتقل محبته في الحياة إلى محبته للموت فيقبض على ذلك. قال: وقد يحدث الله في قلب عبده من الرغبة فيما عنده والشوق إليه والمحبة للقائه ما يشتاق معه إلى الموت فضلا عن إزالة الكراهة عنه، فأخبر أنه يكره الموت ويسوءه، ويكره الله مساءته فيزيل عنه كراهية الموت لما يورده عليه من الأحوال فيأتيه الموت وهو له مؤثر وإليه مشتاق. قال: وقد ورد تفعل بمعنى فعل مثل تفكر وفكر وتدبر ودبر وتهدد وهدد والله أعلم. وعن بعضهم: يحتمل أن يكون تركيب الولي يحتمل أن يعيش خمسين سنة وعمره الذي كتب له سبعون فإذا بلغها فمرض دعا الله بالعافية فيحييه عشرين أخرى مثلا، فعبر عن قدر التركيب وعما انتهى إليه بحسب الأجل المكتوب بالتردد، وعبر ابن الجوزي عن الثاني بأن التردد للملائكة الذين يقبضون الروح وأضاف الحق ذلك لنفسه لأن ترددهم عن أمره، قال: وهذا التردد ينشأ عن إظهار الكراهة. فإن قيل إذا أمر الملك بالقبض كيف يقع منه التردد؟ فالجواب أنه يتردد فيما يحد له فيه الوقت. كأن يقال لا تقبض روحه إلا إذا رضي. ثم ذكر جوابا ثالثا وهو احتمال أن يكون معنى التردد اللطف به كأن الملك يؤخر القبض، فإنه إذا نظر إلى قدر المؤمن وعظم المنفعة به لأهل الدنيا احترمه فلم يبسط يده إليه، فإذا ذكر أمر ربه لم يجد بدا من امتثاله. وجوابا رابعا وهو أن يكون هذا خطابا لنا بما نعقل والرب منزه عن حقيقته، بل هو من جنس قوله " ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " فكما أن أحدنا يريد أن يضرب ولده تأديبا فتمنعه المحبة وتبعثه الشفقة فيتردد بينهما ولو كان غير الوالد كالمعلم لم يتردد بل كان يبادر إلى ضربه لتأديبه فأريد تفيهمنا تحقيق المحبة للولي بذكر التردد. وجوز الكرماني احتمالا آخر وهو أن المراد أنه يقبض روح المؤمن بالتأني والتدريج، بخلاف سائر الأمور فإنها تحصل بمجرد قول كن سريعا دفعة. قوله (يكره الموت وأنا أكره مساءته) في حديث عائشة " أنه يكره الموت وأنا أكره مساءته " زاد ابن مخلد عن ابن كرامة في آخره " ولا بد له منه " ووقعت هذه الزيادة أيضا في حديث وهب، وأسند البيهقي في " الزهد " عن الجنيد سيد الطائفة قال: الكراهة هنا لما يلقى المؤمن من الموت وصعوبته وكربه، وليس المعنى أني أكره له الموت لأن الموت يورده إلى رحمة الله ومغفرته انتهى. وعبر بعضهم عن هذا بأن الموت حتم مقضي، وهو مفارقة الروح للجسد، ولا تحصل غالبا إلا بألم عظيم جدا كما جاء عن عمرو بن العاص أنه سئل وهو يموت فقال: " كأني أتنفس من خرم إبرة، وكأن غصن شوك يجر به من قامتي إلى هامتي " وعن كعب أن عمر سأله عن الموت فوصفه بنحو هذا، فلما كان الموت بهذا الوصف، والله يكره أذى المؤمن، أطلق على ذلك الكراهة. ويحتمل أن تكون المساءة بالنسبة إلى طول الحياة لأنها تؤدي إلى أرذل العمر، وتنكس الخلق والرد إلى أسفل سافلين. وجوز الكرماني أن يكون المراد أكره مكرهه الموت فلا أسرع بقبض روحه فأكون كالمتردد. قال الشيخ أبو الفضل بن عطاء: في هذا الحديث عظم قدر الولي، لكونه خرج عن تدبيره إلى تدبير ربه، وعن انتصاره لنفسه إلى انتصار الله له، وعن حوله وقوته بصدق توكله. قال: ويؤخذ منه أن لا يحكم لإنسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده بأنه سلم من انتقام الله، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه كالمصيبة في الدين مثلا. قال: ويدخل في قوله " افترضت عليه " الفرائض الظاهرة فعلا كالصلاة والزكاة وغيرهما من العبادات، وتركا كالزنا والقتل وغيرهما من المحرمات، والباطنة كالعلم بالله والحب له والتوكل عليه والخوف منه وغير ذلك. وهي تنقسم أيضا إلى أفعال وتروك. قال: وفيه دلالة على جواز اطلاع الولي على المغيبات بإطلاع الله تعالى له، ولا يمنع من ذلك ظاهر قوله تعالى قلت الوصف المستثنى للرسول هنا إن كان فيما يتعلق بخصوص كونه رسولا فلا مشاركة لأحد من أتباعه فيه إلا منه، وإلا فيحتمل ما قال، والعلم عند الله تعالى. (تنبيه) : أشكل وجه دخول هذا الحديث في باب التواضع حتى قال الداودي: ليس هذا الحديث من التواضع في شيء. وقال بعضهم: المناسب إدخاله في الباب الذي قبله وهو مجاهدة المرء نفسه في طاعة الله تعالى، وبذلك ترجم البيهقي في " الزهد " فقال: فصل في الاجتهاد في الطاعة وملازمة العبودية. والجواب عن البخاري من أوجه: أحدها أن التقرب إلى الله بالنوافل لا يكون إلا بغاية التواضع لله والتوكيل عليه، ذكره الكرماني، ثانيها ذكره أيضا فقال: قيل الترجمة مستفادة مما قال " كنت سمعه " ومن التردد. قلت: ويخرج منه جواب ثالث، ويظهر لي رابع، وهو أنها تستفاد من لازم قوله " من عادى لي وليا " لأنه يقتضي الزجر عن معاداة الأولياء المستلزم لموالاتهم، وموالاة جميع الأولياء لا تتأتى إلا بغاية التواضع، إذ منهم الأشعث الأغبر الذي لا يؤبه له وقد ورد في الحث على التواضع عدة أحاديث صحيحة لكن ليس شيء منها على شرطه فاستغنى عنها بحديثي الباب، منها حديث عياض بن حمار رفعه " إن الله تعالى أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد " أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، ومنها حديث أبي هريرة رفعه " وما تواضع أحد لله تعالى إلا رفعه " أخرجه مسلم أيضا والترمذي، ومنها حديث أبي سعيد رفعه " من تواضع لله رفعه الله حتى يجعله في أعلى عليين " الحديث أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان *3* وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين) قال أبو البقاء العكبري في إعراب المسند: الساعة بالنصب والواو فيه بمعنى " مع " قال: ولو قرئ بالرفع لفسد المعنى لأنه لا يقال بعثت الساعة، ولا هو في موضع المرفوع لأنها لم توجد بعد، وأجاز غيره الوجهين، بل جزم عياض بأن الرفع أحسن وهو عطف على ضمير المجهول في بعثت، قال: ويجوز النصب، وذكر نحو توجيه أبي البقاء وزاد: أو على ضمير يدل عليه الحال نحو فانتظروا، كما قدر في نحو جاء البرد والطيالسة فاستعدوا. قلت: والجواب عن الذي اعتل به أبو البقاء أولا أن يضمن بعثت معنى يجمع إرسال الرسول ومجيء الساعة نحو جئت، وعن الثاني بأنها نزلت منزلة الموجود مبالغة في تحقق مجيئها، ويرجح النصب ما وقع في تفسير سورة والنازعات من هذا الصحيح من طريق فضيل بن سليمان عن أبي حازم بلفظ " بعثت والساعة " فإنه ظاهر في أن الواو للمعية. قوله (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر الآية) كذا لأبي ذر. وفي رواية الأكثر ولما أراد البخاري إدخال أشراط الساعة وصفة القيامة في كتاب الرقاق استطرد من حديث الباب الذي قبله المشتمل على ذكر الموت الدال على فناء كل شيء إلى ذكر ما يدل على قرب القيامة، وهو من لطيف ترتيبه. ثم ذكر فيه ثلاثة أحاديث عن سهل وأنس وأبي هريرة بلفظ واحد، وفي حديث سهل وأبي هريرة زيادة الإشارة. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ هَكَذَا وَيُشِيرُ بِإِصْبَعَيْهِ فَيَمُدُّ بِهِمَا الشرح: قوله: (عن سهل) في رواية سفيان عن أبي حازم سمعت من سهل بن سعد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في كتاب اللعان. قوله (بعثت أنا والساعة) المراد بالساعة هنا يوم القيامة، والأصل فيها قطعة من الزمان، وفي عرف أهل الميقات جزء من أربعة وعشرين جزءا من اليوم والليلة، وثبت مثله في حديث جابر رفعه " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " وقد بينت حاله في كتاب الجمعة، وأطلقت في الحديث على انخرام قرن الصحابة ففي صحيح مسلم عن عائشة " كان الأعراب يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فنظر إلى أحدث إنسان منهم فقال: إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم " وعنده من حديث أنس نحوه، وأطلقت أيضا على موت الإنسان الواحد. قوله (كهاتين) كذا وقع عند الكشميهني في حديث سهل، ولغيره " كهاتين هكذا " وكذا وقع في رواية سفيان لكن بلفظ " كهذه من هذه، أو كهاتين " وفي رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عند مسلم " بعثت أنا والساعة هكذا " وفي رواية فضيل بن سليمان " قال بأصبعيه هكذا". قوله (ويشير بإصبعيه فيمدهما) في رواية سفيان " وقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى " وفي رواية فضيل بن سليمان ويعقوب " بالوسطي والتي تلي الإبهام " وللإسماعيلي من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه " وجمع بين إصبعيه وفرق بينهما شيئا " وفي رواية أبي ضمرة عن أبي حازم عند ابن جرير " وضم بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام وقال: وما مثلي الساعة إلا كفرسي رهان " ونحوه في حديث بريدة بلفظ " بعثت أنا والساعة، إن كادت لتسبقني " أخرجه أحمد والطبري وسنده حسن، وفي حديث المستورد بن شداد " بعثت في نفس الساعة سبقها كما سبقت هذه لهذه، لإصبعيه السبابة والوسطى " أخرجه الترمذي والطبري. وقوله "في نفس " بفتح الفاء وهو كناية عن القرب أي بعثت عند تنفسها، ومثله في حديث أبي جبيرة - بفتح الجيم كسر الموحدة: الأنصاري عن أشياخ من الأنصار أخرجه الطبري، وأخرجه أيضا عن أبي جبيرة مرفوعا بغير واسطة بلفظ أخر سأنبه عليه. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ الشرح: قوله في حديث أنس (وأبي التياح) بفتح المثناة وتشديد التحتانية وآخره مهملة اسمه يزيد بن حميد، ووقع عند مسلم في رواية خالد بن الحارث عن شعبة " سمعت قتادة وأبا التياح يحدثان أنهما سمعا أنسا " فذكره وزاد في آخره " هكذا " وقرن شعبة المسبحة والوسطى " وأخرجه من طريق ابن عدي عن شعبة عن حمزة الضبي وأبي التياح مثله، وليس هذا اختلافا على شعبة بل كان سمعه من ثلاثة فكان يحدث به تارة عن الجميع وتارة عن البعض، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن شعبة فجمع الثلاثة، ووقع لمسلم من طريق غندر عن شعبة عن قتادة " حدثنا أنس " كراوية البخاري وزاد " قال شعبة وسمعت قتادة يقول في قصصه كفضل إحداهما على الأخرى " فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله قتادة أي من قبل نفسه، وأخرجه الطبري من هذا الوجه بلفظ " فلا أدري أذكره عن أنس أو قاله هو " وزاد في رواية عاصم بن على " هكذا وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة قال " وكان يقول يغني قتادة كفضل إحداهما على الأخرى". قلت: ولم أرها في شيء من الطرق عن أنس، وقد أخرجه مسلم من طريق معبد وهو ابن هلال والطبري من طريق إسماعيل بن عبيد الله كلاهما عن أنس وليس ذلك فيه، نعم وجدت هذه الزيادة مرفوعة في حديث أبي جبيرة بن الضحاك عند الطبري. الحديث: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ يَعْنِي إِصْبَعَيْنِ تَابَعَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ الشرح: قوله في حديث أبي هريرة (حدثني يحيى بن يوسف) في رواية أبي ذر " حدثنا". قوله (حدثنا أبو بكر) في رواية غير أبي ذر " أخبرنا أبو بكر وهو ابن عياش". قوله (عن أبي حصين) في رواية ابن ماجه " حدثنا أبو حصين " بفتح المهملة أوله، وأبو صالح هو ذكوان، والإسناد كله كوفيون. قوله (كهاتين يعني أصبعين) كذا في الأصل، ووقع عند ابن ماجه عن هناد بن السري عن أبي بكر بن عياش " وجمع بين أصبعيه " وأخرجه الطبري عن هناد بلفظ " وأشار بالسبابة والوسطى " بدل قوله " يعني أصبعين " وقد أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن هناد " بلفظ كهذه من هذه يعني أصبعيه"، وله من رواية أبي طالب عن الدوري " وأشار أبو بكر بأصبعيه السبابة والتي تليها " وهذا يدل على أن في رواية الطبري إدراجا، وهذه الزيادة ثابتة في المرفوع لكن من حديث أبي هريرة كما تقدم، وقد أخرجه الطبري من حديث جابر ابن سمرة " كأني أنظر إلى أصبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار بالمسبحة والتي تليها وهو يقول: بعثت أنا والساعة كهذه من هذه " وجمع رواية له عنه " وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى، والمراد بالسبابة وهي بفتح المهملة وتشديد الموحدة الأصبع التي بين الإبهام والوسطى وهي المراد بالمسبحة سميت مسبحة لأنها يشار بها عند التسبيح وتحرك في التشهد عند التهليل إشارة إلى التوحيد، وسميت سبابة لأنهم كانوا إذا تسابوا أشاروا بها. قوله (تابعه إسرائيل) يعني ابن يونس بن أبي إسحاق (عن أبي حصين) يعني بالسند والمتن، وقد وصله الإسماعيلي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل بسنده قال مثل رواية هناد عن أبي بكر بن عياش، قال الإسماعيلي: وقد تابعهما قيس بن الربيع عن أبي حصين، قال عياض وغيره: أشار بهذا الحديث على اختلاف ألفاظه إلى قلة المدة بينه وبين الساعة، والتفاوت إما في المجاورة وإما في قدر ما بينهما، ويعضده قوله " كفضل أحدهما على الأخرى " وقال بعضهم: هذا الذي يتجه أن يقال، ولو كان المراد الأول لقامت الساعة لاتصال إحدى الأصبعين بالأخرى قال ابن التين: اختلف في معنى قوله " كهاتين " فقيل كما بين السبابة والوسطى في الطول، وقيل المعنى ليس بينه وبينها نبي. وقال القرطبي في " المفهم " حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها، قال وعلى رواية النصب يكون التشبيه وقع بالانضمام، وعلى الرفع وقع بالتفاوت. وقال البيضاوي: معناه أن نسبة تقدم البعثة النبوية على قيام الساعة كنسبة فضل إحدى الأصبعين على الأخرى، وقيل المراد استمرار دعوته لا تفترق إحداهما عن الأخرى، كما أن الأصبعين لا تفترق إحداهما عن الأخرى. ورجح الطيبي قول البيضاوي بزيادة المستورد فيه. وقال القرطبي في " التذكرة ": معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة. ولا منافاة بينه وبين قوله في الحديث الآخر " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " فإن المراد بحديث الباب أنه ليس بينه وبين الساعة نبي كما ليس بين السبابة والوسطى أصبع أخرى، ولا يلزم من ذلك علم وقتها بعينه لكن سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد. وقال الكرماني: قيل معناه الإشارة إلى قرب المجاورة، وقيل إلى تفاوت ما بينهما طولا، وعلى هذا فالنظر في القول الأول إلى العرض، وقيل المراد ليس بينهما واسطة، ولا معارضة بين هذا وبين قوله تعالى وذكر ما أخرجه أبو داود في تأخير هذه الأمة نصف يوم وفسره بخمسمائة سنة، فيؤخذ من ذلك أن الذي يقي نصف سبع وهو قريب مما بين السبابة والوسطى في الطول، قال: وقد ظهر عدم صحة ذلك لوقوع خلافه ومجاوزة هذا المقدار ولو كان ذلك ثابتا لم يقع خلافه. قلت: وقد انضاف إلى ذلك منذ عهد عياض إلى هذا الحين ثلاثمائة سنة. وقال ابن العربي: قيل الوسطى تزيد على السبابة نصف سبعها، وكذلك الباقي الدنيا من البعثة إلى قيام الساعة. قال: وهذا بعيد ولا يعلم مقدار الدنيا فكيف يتحصل لنا نصف سبع أمد مجهول، فالصواب الإعراض عن ذلك قلت: السابق إلى ذلك أبو جعفر بن جرير الطبري فإنه أورد في مقدمة تاريخه عن ابن عباس قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى ستة آلاف ومائة سنة، وأورده من طريق يحيى بن يعقوب عن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عنه. ويحيى هو أبو طالب القاص الأنصاري، قال البخاري: منكر الحديث، وشيخه هو فقيه الكوفة وفيه مقال. ثم أورد الطبري عن كعب الأحبار قال: الدنيا ستة آلاف سنة. وعن وهب بن منبه مثله وزاد أن الذي مضى منها خمسة آلاف وستمائة سنة، ثم زيفهما ورجح ما جاء عن ابن عباس. ثم أورد حديث ابن عمر الذي في الصحيحين مرفوعا " ما أجلكم في أجل من كان قبلكم إلا من صلاة العصر إلى مغرب الشمس " ومن طريق مغيرة بن حكيم عن ابن عمر بلفظ " ما بقي لأمتي من الدنيا إلا كمقدار إذا صليت العصر " ومن طريق مجاهد عن ابن عمر " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان مرتفعة بعد العصر فقال: ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من هذا النهار فيما مضى منه " وهو عند أحمد أيضا بسند حسن. ثم أورد حديث أنس " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقد كادت الشمس تغيب " فذكر نحو الحديث الأول عن ابن عمر، ومن حديث أبي سعيد بمعناه قال عند غروب الشمس " إن مثل ما بقي من الدنيا فيما مضى منها كبقية يومكم هذا فيما مضى منه " وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وحديث أنس أخرجه أيضا وفيه موسى بن خلف، ثم جمع بينهما بما حاصله أنه حمل قوله " بعد صلاة العصر " على ما إذا صليت في وسط من وقتها. قلت: وهو بعيد من لفظ أنس وأبي سعيد، وحديث ابن عمر صحيح متفق عليه فالصواب الاعتماد عليه، وله محملان أحدهما أن المراد بالتشبيه التقريب ولا يراد حقيقة المقدار فيه يجتمع مع حديث أنس وأبي سعيد على تقدير ثبوتهما، والثاني أن يحمل على ظاهره فيقدم حديث ابن عمر لصحته ويكون فيه دلالة على أن مدة هذه الأمة قدر خمس النهار تقريبا. ثم أيد الطبري كلامه بحديث الباب وبحديث أبي ثعلبه الذي أخرجه أبو داود وصححه الحاكم ولفظه " والله لا تعجز هذه الأمة من نصف يوم " ورواته ثقات ولكن رجح البخاري وقفه، وعند أبي داود أيضا من حديث سعد بن أبي وقاص بلفظ " إني لأرجو أن لا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، قيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة " ورواته موثقون إلا أن فيها انقطاعا. قال الطبري: ونصف اليوم خمسمائة سنة أخذا من قوله تعالى وقد أورد السهيلي كلام الطبري وأيده بما وقع عنده في حديث المستورد، وأكده بحديث زمل رفعه " الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها". قلت وهذا الحديث إنما هو عن ابن زمل وسنده ضعيف جدا أخرجه ابن السكن في " الصحابة " وقال إسناده مجهول، وليس بمعروف في الصحابة، وابن قتيبة في " غريب الحديث " وذكره في الصحابة أيضا ابن منده وغيره وسماه بعضهم عبد الله وبعضهم الضحاك، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن الأثير: ألفاظه مصنوعة. ثم بين السهيلي أنه ليس في حديث نصف يوم ما ينفي الزيادة على الخمسمائة، قال: وقد جاء بيان ذلك فيما رواه جعفر بن عبد الواحد بلفظ " إن أحسنت أمتي فبقاؤها يوم من أيام الآخرة وذلك ألف سنة، وإن أساءت فنصف يوم " قال وليس في قوله " بعثت أنا والساعة كهاتين " ما يقطع به على صحة التأويل الماضي، بل قد قيل في تأويله إنه ليس بينه وبين الساعة نبي مع التقريب لمجيئها. ثم جوز أن يكون في عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر ما يوافق حديث ابن زمل، وذكر أن عدتها تسعمائة وثلاثة. قلت: وهو مبني على طريقة المغاربة في عد الحروف، وأما المشارقة فينقص العدد عندهم مائتين وعشرة فإن السين عند المغاربة بثلاثمائة والصاد بستين وأما المشارقة فالسين عندهم ستون والصاد تسعون فيكون المقدار عندهم ستمائة وثلاثة وتسعين، وقد مضت وزيادة عليها مائة وخمس وأربعون سنة، فالحمل على ذلك من هذه الحيثية باطل، وقد ثبت عن ابن عباس الزجر عن عد أبي جاد والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة. وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي وهو من مشايخ السهيلي في فوائد رحلته ما نصه: ومن الباطل الحروف المقطعة في أوائل السور، وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل فيها إلى فهم إلا أني أقول. فذكر ما ملخصه أنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، بل تلا عليهم "ص" وحم وفصلت وغيرهما فلم ينكروا ذلك بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه. قلت: وأما عد الحروف بخصوصه فإنما جاء عن بعض اليهود كما حكاه ابن إسحاق في السيرة النبوية عن أبي ياسر ابن أخطب وغيره أنهم حملوا الحروف التي في أوائل السور على هذا الحساب واستقصروا المدة أول ما نزل الم والر، فلما نزل بعد ذلك المص وطسم وغير ذلك قالوا ألبست علينا الأمر. وعلى تقدير أن يكون ذلك مرادا فليحمل على جميع الحروف الواردة ولا يحذف المكرر، فإنه ما من حرف منها إلا وله سر يخصه، أو يقتصر على حذف المكرر من أسماء السور ولو تكررت الحروف فيها، فإن السور التي ابتدئت بذلك تسع وعشرون سورة وعدد حروف الجميع ثمانية وسبعون حرفا وهي الم ستة حم ستة الر خمسة طسم ثنتان المص المر كهيعص حمعسق طه طس يس ص ق ن، فإذا حذف ما كرر من السور وهي خمس من ألم وخمس من حم وأربع من الر وواحدة من طسم بقي أربع عشرة سورة عدد حروفها ثمانية وثلاثون حرفا فإذا حسب عددها بالجمل المغربي بلغت ألفين وستمائة وأربعة وعشرين وأما بالجمل المشرقي فتبلغ ألفا وسبعمائة وأربعة وخمسين ولم أذكر ذلك ليعتمد عليه إلا لأبين أن الذي جنح إليه السهيلي لا ينبغي الاعتماد عليه لشدة التخالف فيه، وفي الجملة فأقوى ما يعتمد في ذلك عليه حديث ابن عمر الذي أشرت إليه قبل، وقد أخرج معمر في الجامع عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معمر: وبلغني عن عكرمة في قوله تعالى والله المستعان.
|